من بديع ما قرأت للشيخ العلامة الجليل سيدي عبدالله بن الصديق الغماري الحسني رضي الله عنه، هو شرح فقهي أصولي وجداني كتبه معلّقا على الحديث النبوي الشريف “حسين مني و أنا من حسين”. يدرك قارئه بجلاء موهبة هذا العالم في فهم كلام جدّه عليه الصلاة و السلام فهماً عزّ إن لم أقل انعدم عند غيره..إليكم ما خطت أنامله رحمه الله:
حسينٌ منّي بضعاً و نسباً، و أنا منه محبّةً و تقديراً و حسباً، و هذا الأسلوب يسمّى بالمشاكلة، و المراد به تمام التّمازج بين الذّاتين، الذّات المصطفويّة، و الذّات الحسينيّة، بحيث تحسّ إحداهما بما يحصل للأخرى إحساسا وجدانيّاً، كما يحسّ الشّخص من نفسه بالجوع و العطش. و لهذا رأت أمّ سلمة رضي الله عنها النّبي عليه الصلاة و السلام يوم قتل الحسين و في يده قارورة فيها دم. فقال لها: “مازلت ألتقط دم الحسين منذ صباح اليوم”، و لم يكن وصل خبر قتله إلى المدينة، لأن بينها و بين العراق مسيرة شهر. و معنى ذلك أنّ الذات المصطفوية أحسّت و هي بالروضة الشريفة بما حصل للذات الحسينية، فتحرّك مثالها في جمع دمها من الأرض. و لم يحصل مثل هذه الرؤيا يوم مات الحسن عليه السلام بالمدينة مسموماً شهيداً، بعد أن لفظ من فمه قطع الدّم أمثال الكبد لعدم التمازج المذكور. و لتمازج الحسين عليه السلام بجده المصطفى عليه الصلاة و السلام، سرٌّ ليس هذا موضع شرحه! و انظر رعاك الله إلى قوله عليه الصلاة و السلام “و أنا من حسين”، يشير و الله أعلم الى ما بعد انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى حيث امتزجت الحقيقة المحمدية بالذات الحسينية، امتزاج تجلي و تَخَلَّق فكانت تلك الحقيقة باطنة في ذات الحسين عليه السلام، و من ثَمَّ امتنع من قبول ما عُرض عليه حين عزم على الخروج إلى العراق لمحاربة يزيد، كما امتنع النبي صلى الله عليه و سلم من قبول ما عُرض عليه ليرجع عن دعوته، و قال قولته المشهورة: “لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يُظْهره الله أو أهلك دونه”. فالحسين في عزمه و تصميمه على إقامة الحق، منفّذ لرغبة الحقيقة التي هي منه بتجلّيها فيه و كمونها في باطنه، و تحقّق فيه قول جده “أو أهلك دونه”، فهلك الحسين دون إقامة أمر الخلافة، التي أراد إقامتها على الحق تنفيذاً لرغبة جدّه الباطنة فيه و امتثالاً لنصوص شريعته. و هذا المعنى لم يكن لأخيه سيدنا الحسن الذي سماه جدّه سيداً، فتأمل بإمعان. و يلاحظ أن تجلي الحقيقة و امتزاجها بقدر ما تحتمله الذات الحسينية للفارق الكبير بين مقام النبوة و الشهادة. فافهم. و للمقام شرح طويل لا يتسع له هذا المكان
..
