الأربعاء , فبراير 12 2025

د.أحمد البصيلي يكتب.. إزالة الأوهام عن حديث (النهى عن بدء اليهود والنصارى بالسلام)

ورد النهى فى الحديث الشريف عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ مرفوعاً :(لاَ تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلاَمِ وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فِىالطَّرِيقِ فَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِ الطَّرِيقِ).

وهذا الحديث فى ظاهره الشدة غير المألوفة من المسلمين تجاه غيرهم من غير المسلمين والسؤال: هل هذا التعامل يمثل الواقع فى حياة سيدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ؟

هل كان النبى لا يسلم على غير المسلمين ، وإذا مرَّ به أحدهم ضيق عليه طريقه ؟

الجواب فى ذلك : حاشاه أن يكون هكذا .

ولأجل هذا طعن جماعة فى صحة هذا الحديث الشريف وهم فى ذلك من الزاعمين أنه يخالف صحيح الإسلام .

والذى نبهت عليه مراراً وساظل أنبه عليه دائماً أنه لا ينبغى التجاسر على ما صح فى الحديث الشريف بالسند المتصل فنرفض كلام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمجرد أنه من وجهة نظرنا غير صحيح ومخالف لما استقر فى الشرع الشريف . والذى يجب أن يقال : إن الحديث صحيح لوروده بالسند

الذى لا مطعن فيه ولكنه يوجه إلى أنه واقعة حال وليست واقعة دوام ، أى قال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك فى حادثة معينة ، ولا يصح أن تعمم فى كل زمن ونجمد على النص ، والذى دفعنا إلى القول بذلك هو أن الهدى النبوى مع أهل الكتاب يثير العجب والدهشة ، وكيف كان رسولنا الكريم مثالاً للرحمة الإلهية العظيمة التى أنزلها الله تعالى على عباده ، ثم ضع هذا فى مقابل ما ورد من أنه لا يسلم عليهم بل وإذا وجدهم فى طريق ضيق عليهم ؟

فيجب تخصيص هذا الحديث بالواقعة التى نزل الحديث فيها ليصدق معناه على ما جاءت به الأخبار الكثيرة المتواترة من صور سماحته وشفقته ورحمته بغير المسلمين ، ولعلَّ هذا ما جاءت به الروايات ، فعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُهَنِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : ” إِنِّي رَاكِبٌ غَدًا إِلَى الْيَهُودِ فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ، فَإِذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ “.

وفى مسند ابن أبى شيبة بلفظ (عَنْ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِنَّا قَادِمُونَ إِلَى يَهُودَ فَلَا تَبْتَدِئُوهُمْ بِالسَّلَامِ، فَإِنْ سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ “.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ” إنكم لاقون اليهود غداً، فلا تبدءوهمبالسلام ، فإن سلموا عليكم فقولوا: وعليك.

فقد جاء الحديث فى حين غزو النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبنى قريظة ، فإذا ما قامت الحرب بينك وبين أعدائك فهل هناك مجال للسلام أو الود ؟وقد تضاربت فى ذلك أفهام أصحابه الكرام ، هل هى قضية عموم أم خصوص؟

فرأينا الكثير من الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ يجوِّزون إلقاء السلام على أهل الكتاب وغيرهم ، وممن ورد عنهم ذلك :

سيدنا أبو أمامة كما رواه ابن أبى شيبة فى الأدب (باب ما جاء في ابتداء أهل الشرك بالسلام)ثم ذكر عن أبي أمامة: (أنه كان لا يمر بمسلم ولا يهودي ولا نصراني إلا بدأهم بالسلام).

ورواه الهيثمى فى (مجمع الزوائد) قال الراوى ( إنه كان يُسلِّم على كل من لقيه قال : فما علمت أحداً سبقه بالسلام إلاَّ يهودياً مرة اختبأ له خلف أسطوانة فخرج فسلَّم عليه فقال له أبو أمامة : ويحك يا يهودي ما حملك على ما صنعت ؟ قال له : رأيتك رجلاً تكثر السلام فعلمت أنه فضل فأردت أن آخذ به ، فقال له أبو أمامة : ويحك إني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـيقول : ” إن الله جعل السلام تحية لأمتنا وأماناً لأهل ذمتنا “.

ثم روى عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ : (من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسياً فإن الله يقول : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها }.

وعن ابن عجلان: (أن عبد الله بن مسعود، وأبا الدرداء، وفضالة بن عبيد كانوا يبدؤون أهل الشرك بالسلام).

وقد روى ابن أبى شيبة فى مصنفه جواز ذلك عن ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ ؛ فأورد بسنده إلى عَلْقَمَةَ ، قَالَ : أَقْبَلْت مَعَ عَبْدِ اللهِ مِنَ السَّيْلَحين فَصَحِبَهُ دَهَّاقِينَ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ ، فَلَمَّا دَخَلُوا الْكُوفَةَ أَخَذُوا فِي طَرِيقٍ غَيْرِ طَرِيقِهِمْ ، فَالْتَفَتَ إلَيْهِمْ فَرَآهُمْ قَدْ عَدَلُوا ، فَأَتْبَعَهُمَ السَّلاَمَ ، فَقُلْت : أَتُسَلِّمُ عَلَى هَؤُلاَءِ الْكُفَّارِ ، فَقَالَ : نَعَمْ إِنَّهُم صَحِبُونِي وَلِلصُّحْبَةِ حَقٌّ.

قلت : وهذا سند صحيح لا غبار عليه ، فهو من رواية أبى معاوية عن إبراهيم

عن الأعمش عن علقمة ، فأبى معاوية هو محمد بن خازم السعدى الكوفى وهو من أجلِّ من روى عن الأعمش بل قدمه يحى بن معين على من سواه ، وإبراهيم هو النخعىالإمام الحافظ الفقيه ، والأعمش هو سليمان بن مهران الحافظ الكبير ، وعلقمة هو ابن قيس بن عبدالله النخعىوهو خال فقيه العراق إبراهيم النخعى وهو أعلم الناس بحديث ابن مسعود رضى الله عنه . كما هو مستقر ومعلوم عند المحدثين .

وروى البخارى فى (الأدب المفرد) جوازه عن أبى موسى الأشعرى ـ رضى الله عنه ـ فأورد بسنده إلى أبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ “أَنَّ أَبَا مُوسَى، كَتَبَ إِلَى دَهْقَانَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ. فَقِيلَ لَهُ: أَتُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ كَافِرٌ؟! قَالَ: إِنَّهُ كتب إلي يسلم عليَّ فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ.

قال الإمام البوصيرى : (هذا إسناد رواته ثقات).

وروى القاضى عياض الجواز عن ابن عباس وأبى أمامةوابن محيريز ، واحتج من قال هذا بقوله – عليه السلام -: ” أفشوا السلام “، … ويروى ذلك عن إبراهيم وعلقمة.

وقال الإمام الأوزاعى: إن سلمت فقد سلم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون.

وأورد البيهقى فى (شعب الإيمان) رواية تجيز ذلك من فعل ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ فأورد بسنده إلى أَبِي عَمْرٍو النَّدَبِيِّ ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ ” فَمَا لَقِيَ صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ، وَلَقَدْ مَرَّ بِعَبْدٍ أَعْمَى أَوْ قَالَ: أَعْجَمِيٌّ، فَجَعَلَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَالْآخَرُ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ أَعْجَمِيٌّ “.

فابن عمر يسلم على أى أحد وإن كان أعجمياً ، وقد يكون على الإسلام أو غيره ، ولم يستفسر عن دينه قبل إلقاء السلام .

ثم إن البخارى قد روى فى صحيحه أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ مر على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود فسلم .

فإن قال سلم وقصده المسلمون ، قلنا لا دليل على الخصوصية لأسباب :

الأول : أن الفعل قد صدر من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على وجه العموم ، ولم يقل السلام عليكم يا جماعة المؤمنين ، فتخصيصه بالمسلمين  تحكم بلا دليل.

الثانى : أن ما ورد عن كثير من الصحابة سابقاً ينفى هذا المعنى ، ولا شك أن فهمهم للهدى النبوى مقدم على من سواهم ، فلو علم الصحابة الكرام أن ذلك على عمومه لما أجازوا ان يسلموا على أهل الكتاب وهم أكثر الناس تشبهاً وتمسكاً بالهدى النبوى.

الثالث : أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قال فىالحديث الذى رواه عنه عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ).

ولو كان السلام على غير المسلمين غير جائز لقال الرسول : على من عرفت ومن لم تعرف من المسلمين ، وهو يلزم الإنسان أن يسأل من يقابله عن دينه قبل أن يُلق عليه السلام؟!!

الرابع : التمسك بالعموم ليس بمستقيم لا سيما أن أحاديث النهى عن ابتدائهم بالسلام كما روى عن غير واحد لعلة قولهم (السام عليكم) وتعميم القول بأنهم جميعاً يقولون هذا فليس بمستقيم ، فكان النهى عن ابتدائهم والرد عليهم كان لأجل العلة التى من أجلها نهى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإذا ما انتفت العلة سقط النهى كما هو معلوم عند أهل الأصول (الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً).

وإن ثبت قولهم السام عليكم امتنع ابتداؤهم بالسلام وعاد الحكم إلى أصله .

ثم إليك بما ثبت فى الصحيح عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً ، فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أولئك، النفر من الملائكة، جلوس، فاستمع ما يحيونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، فلم يزل الخلق ينقص بعد حتى الآن.

فتأمل : (فإنها تحيتك وتحية ذريتك) ولم يقل من المؤمنين .

ثم إن النهى المطلق فى عدم البدء بالسلام لم يأت فيما أعلم إلا من رواية سيدنا أبى هريرة فهو الذى روى هذا الحديث على عمومه وجاء مقيداً غير مرة عن غير صحابىكأبى عبدالرحمن الجهنى ، وأبى بصرة الغفارى ، وابن عمر ، وشهرة ذلك عن أبى أمامة وابن عباس وابن مسعود وأبا الدرداء، وفضالة بن عبيد وابن محيريز ، وغيرهم من السلف يؤكد ما ذهبت إليه، ويكسبه قوة وأرجحية ، والله أعلم.

عن Mohamed Elwardany

شاهد أيضاً

من دروس الساحة.. الشيخ أحمد الهجين وشرح قاعدة: هل العبرة بصيغ العقود أو بمعانيها؟