قَصَرَ جماعة هذا الحديث على ما يُذبَحُ عند قبور الصالحين في الموالد الشريفة، وقالوا بأنه ذبحٌ لغير الله ـ تعالى ـ، وصاحبه ملعون، وبهذا قد فعل فعلًا من أفعال المشركين.
وكان ينبغي على القائلين بذلك أن يفرقوا بين عدة أمور بدهية:
الأول: من ذَبَحَ لغير الله ـ تعالى ـ قاصدًا التقرب لمن ذبح له فصاحبه ملعون؛ لأن التقرب بأي عبادة لغير الله شرك، وصاحبه يشرك في عبوديته لله أحدًا، وهذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين أهل العلم قاطبة، وهذه الصورة لا نراها في مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدَا رسول الله، فليس أحدٌ من المعاصرين يذبح في مولد مولانا الحسين مثلًا ويعتقد أنه إله أو أحق بالعبودية.
الثاني: إنْ ذَبَحَ إنسانٌ عند أحد قبور الصالحين، ولم يقصد التقرب إلى صاحب القبر، ولكنه وهب ثواب ذبحه لصاحب القبر؛ فيقال: ذبح له، كمن يقول: تصدق له بصدقة، وقرأ له الفاتحة، أودعا له، ونحو ذلك فهذا لا حرج فيه ـ أيضًا ـ؛ لأن قصده لم ينصرف عن الله رب العالمين، والصدقة جائزة عن سائر الأموات، وهذا مما لا أعلم فيه خلافًا أيضًا.
الثالث: إنْ ذَبَحَ عند قبر أحد الصالحين وقصد التقرب إلى الله ـ تعالى ـ؛ ولكنه اعتاد أن يطعم الناس في مثل هذه الاجتماعات فلا شيء فيه ـ أيضًا ـ، بل هو مأجور بنيته ومقصده، وهذه الصورة لا ينكرها عاقل، لأن إطعام الناس في اجتماعاتهم من أفضل القربات، حتى قال الحافظ الذهبي عن سلطان الدين التركماني صاحب إربل (سير أعلام النبلاء 22/336): وإطعامه الناس في أيام المولد: “وَيُخْرِجُ من البقر والإبل الغنم شَيْئاً كَثِيْراً فَتُنْحَر وَتُطْبَخ الأَلوَان، وَيَعْمَل عِدَّة خِلَع لِلصُّوْفِيَة، وَيَتكلَّم الوُعَّاظ فِي المَيْدَان، فَيُنفق أَمْوَالاً جَزِيْلَة، وَقَدْ جَمَعَ لَهُ ابْن دِحْيَة “كِتَاب المَوْلِد”، فَأَعْطَاهُ أَلف دِيْنَار، وَكَانَ مُتَوَاضِعًا، خَيِّرًا، سُنِّيًّا، يُحبّ الفُقَهَاء وَالمُحَدِّثِيْنَ، وَرُبَّمَا أَعْطَى الشُّعَرَاء، وَمَا نُقِلَ أَنَّهُ انْهَزَم فِي حَرْب”، فهذا مما يُمدح به المسلم لأنه باب من أبواب الخير.
بقي لنا أن نعلم أن أهل العلم قد فسروا الحديث بأن اللعن مصاحب لمن ذبح ولم يذكر اسم الله على الذبيحة كمن يذبح ويقول باسم اللات أو باسم فلان من الناس على عادة ما كان عند العرب من عبودية غير الله تعالى، فإن كان قصده التعظيم بذلك فصاحبه ملعون، وإن قصد عبودية من يذبح له كان كفرًا.
قال الإمام النووي في شرحه على مسلم (13/141): «وأما الذبح لغير الله ـ تعالى ـ فالمراد به أن يذبح باسم غير الله ـ تعالى ـ كمن ذبح للصنم أو الصليب أو لموسى أولعيسى ـ صلى الله عليهما وسلم ـ أو للكعبة ونحو ذلك، فكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلمًا أو نصرانيًا أو يهوديًا، نص عليه الشافعي، واتفق عليه أصحابنا؛ فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله ـ تعالى ـ والعبادة له كان ذلك كفرًا».
وقال ابن الملك في (شرح مصابيح السنة 4/493): «(لعن الله من ذبح لغير الله)؛ أي: ذبح باسم غير الله، كقول الكفار عند الذبح: باسم الصنم».
وقال الحافظ السيوطي في (الديباج 5/45): «وَلعن الله من ذبح لغير الله أَي باسم غَيره».
هذا ما فهمه أئمة العلم من الحديث الشريف، فلم يحرموا ما أحل الله ـ تعالى ـ ولم يحلوا ما حرم الله، بخلاف أكثر المعاصرين الذين يحرمون ما ذُبِحَ عند قبر أحد الصالحين، ويتهمون فاعله بالشرك واللعن، وشبهتهم واهية؛ لأن الحديث لم يرد في ذلك مطلقًا؛ وإنما معناه كما مر لك من تفصيل، والخطير في هذه المسألة أن كثيرًا ممن يدَّعي العلم يتهمون أمة الإسلام بالوقوع في الشرك والكفر لأجل هذه المسألة، وفي ذلك بيان واضح على خطأ هؤلاء، وأنهم يحكمون على عقائد الناس بغير علم وبغير فهم، ونسأل الله لنا ولهم الهداية والرشاد آمين، والله تعالى أعلى وأعلم.