الأربعاء , يناير 15 2025

د.أحمد البصيلي يكتب..تطبيق الشريعة بين الحقيقة والادعاء

لقد أكدت الأبحاث واستقرت الوقائع والمعلومات على أننا لو وجدنا شخصا أو ائتلافا يرفع راية الشريعة ويتهم الناس بالفسق والضلال والتقصير، ويقدم نفسه أنه حامي الدين الأوحد والأول. فتأكد أنه أول المجرمين وأخطرهم على الإسلام.
وكان عبد الرحمن بن ملجم، الذي قتل الإمام علي، من أكثر الناس صلاة وعبادة وقراءة للقرآن. ولكن لو فسدت العقول فسدت الضمائر.. ولو تخلى القلب عن الرحمة واللين فقد ضاع الدين. حتى لو أقمت الليل تضرعا وخشية.
وأثناء ارتكابه الجريمة كان يهتف بقوة، كما هي الرواية في كتاب البداية والنهاية لابن كثير، على لسان الحسن بن علي، يقول: الحكم لله .. الحكم لله لا لك يا علي!
وعندما سأله الإمام وهو يحتضر : ألم أحسن إليك؟! لم فعلت هذا؟!
فقال المتبجح: والله لقد نقعت سيفي في السم اربعين يوما وسألت الله أن أقتل به شر خلقه فكان أنت!.
وانتهت الخلافة، ليس على يد جيوش العدو من الكافرين المعتدين، ولكن على يد رجل يصوم ويصلي ويتلو القرآن، بسبب المزايدة باسم تطبيق الشريعة.
المشهد يتكرر مئات المرات عبر عشرات القرون.. من يزايد على الناس بكثرة عبادته. بينما قلبه قد امتلأ غلظة وحقدا. وعقله قد امتلأ سوادا وغباء، ويزايد على غيره أنه لا يطبق الشريعة. وفي سبيل ذلك يرتكب أبشع الجرائم. في حين أنه أول الهالكين.
وعلى يد هؤلاء يضيع الدين.. فكان حتما أن نعتبر من التاريخ باستثمار أدوات وإمكانات العصر والتعاون مع مؤسساته..
لأن إسقاط تاريخ اﻷمة مثل فقدان ذاكرة الفرد..
أمة بلا تاريخ كشجرة بلا جذور أو بنيان بلا أساس..
وإذا ضاع التاريخ أو شوه، تميع النشأ وتقاذفته أمواج الشبهات والشهوات واﻻنتماءات..
ولذا فإن أول ما يفعله المستعمر (المحتل) هو تفريغ اﻷمة من محتواها الحضاري ورصيدها التاريخي، واستعادة كتابة تاريخها وفق ما يخدم أغراضه هو.. بما يسمى بظاهرة اﻻستلاب الحضاري وطمس الهوية.
علينا التحقق في كتابة التاريخ والتعقل في قراءته والمهارة في عرضه والحذر في التعامل مع اﻷحقاب الغامضة فيه..
إن توظيف التاريخ لخدمة اﻷهواء وشرعنة اﻻنتماءات جريمة.
وإن شخصنة اﻷحدات التاريخية وعزلها عن ملابساتها افتراء.
أن نأخذ من التاريخ ما يريحنا ونطمس ما عداه: نظرة انتقائية بعيدة عن اﻹنصاف المنهجي واﻻتساق المعرفي.!
تاريخنا يحتاج إلى جهد مؤسسي متضافر ﻻسترداده والذود عنه واﻻستفادة منه.
ولعله من نافلة القول أن نقرر أن الإسلام هو الدين الذي ينظر إلى المخالف له في العقيدة نظرة شراكة في بناء الحضارة.!
وإن الكافر المسالم أقرب إلينا من المسلم المعتدى.!
وإن مبدأ علاقتنا بالآخر هو أن يسالمنا لا أن يعتنق الإسلام.
والذي يعمل على جَعْلِ الناس كلهم مسلمين إنما يعمل ضد الإرادة الإلهية.. “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ”!. “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ”.!
ومرجعيتنا في ذلك: الوطن. فمن نازعنا فيه أقمنا عليه حكم الله بصفة مؤسسية على النحو الذي شرعه الله ونظمه القانون.
وقد يُتَصوَّر أن يقوم وطن بغير دين.. بل قد حدث بالفعل.. لكن لا يتصور إطلاقا أن يقوم دين بغير وطن يحتضنه ويحميه.!
وإن مهمتنا هي دعم الاعتدال حتى ولو صدر من بيئة كافرة، وتجريم الاعتداء ومحاربته حتى وإن صدر من بيئة مسلمة.!
لأن الله قد أمرنا بمسالمة الكافر ما دام مسالما لنا: ” لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ”. ثم إنه سبحانه بعدله وحكمته أمرنا بقتال المسلم إن اعتدى ولم يرتدع أو يمتثل لجهود المصلحين، “وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ”.
لقد دلت الوقائع وأثبتت العوائد أن الأمن الفكري هو أساس الأمن القومي لأي بلد. وأن حب الوطن ليس شعارات وإنما طاقة إيجابية مركوزة في فطرة كل مواطن، تفتقر إلى تفعيلها بانتظام دائم وعقل فاهم.
وإن أقصى وأقسى عقوبة في الإسلام هي عقوبة من يعبث بأمن المواطنين ومقدرات الأوطان. ” إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ”.
ومعاناة واقع أوطاننا مردُّها بالأساس إلى الجهل..
الجهل في مجال التعامل مع الجنس الآخر.. يولد الانغلاق أو الانحلال وكلاهما بؤس وانحراف..
الجهل بثقافة الرقي في التعامل بين الأزواج.. ينتج عنه غليان واضطرام تعاني منه الأسرة ومنسوبوها..
الجهل بتربية الأولاد وبثقافة الإنجاب، وبالرعاية الصحية، وبالنظافة الشخصية، وبتدابير الوقاية التي هي خير من العلاج، وبثقافة الجوار واحترام الجار، والجهل بثقافة “أعطوا الطريق حقه”.. حقه من النظافة والأمن والإنارة والتهيئة الملائمة، وعدم الجور عليه، وعدم التهوّر أثناء القيادة، أو مخالفة القانون باقتحام إشارة حمراء أو تجاوز السرعة المقررة..
الجهل بحرمة المال العام، يولّد التغول على الملكية العامة، ويُميت ثقافة الوقف، ويبدد موارد الدولة التي تستثمرها في إيصال الخدمات واستمرارية المرافق العامة..
الجهل بثقافة الاقتصاد، (وهي أن استهلاك الإنسان مبني على قدر احتياجه، لا على قدر امتلاكه).. ينتج عنه مجتمع يشجع على الاستهلاك لا الإنتاج، والاستيراد لا التصدير..
الجهل بثقافة “العمل عبادة”، وأن أي عمل مباح هو عمل شريف، وقد قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: “لأن يأخذ أحدكم حبله على ظهره فيحتطب، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه”!، ولا شك أن الجهل بذلك داعم أوّليّ للبطالة، ومفرخة للكُسالى، ومستودع للعجَزة..
نعم.. من حق الإنسان أن يعمل في “تخصصه”، وأن يبحث عن عمل يلائمه ويتواءم مع ما تعلمه في مراحل تعليمه المختلفة.. لكن إذا لم يتوافر ذلك، فعليه باغتنام وقته وجهده في أي عملٍ منتِج، كحل مرحلي ثانوي مؤقت إلى أن تواتيه الظروف بما يريد.. وقدر كل امرئ حقا، بقدر ما يحسنه من تخصصه العلمي، وما يترتب عليه من إنتاج عملي وترجمة تطبيقية لإفادة الناس وعمارة الأرض..
الجهل بثقافة السلام والأمن النفسي والمجتمعي والعالمي، وأنه مقصد من مقاصد الشريعة، بل إنك تستطيع أن تجمع المقاصد “الخمسة” للشريعة تحت كلمة “السلام”، لأن السلام هو أن يسلم المرء ويأمن على نفسه وعقله ودينه وعرضه وماله، ولا يكون المسلم مسلما إلا أن يسلم الناس من لسانه ويده، وأنه لا يحل لأحد أن يروّعَ أحدا ولو على سبيل المزاح. والجهل بذلك قد تفرّع عنه ما نعانيه في واقعنا المعاصر من قتل وتفجير وتكفير، كل هذا يتم – جهلا – باسم الله، ويباركه أصحاب المصالح ويموّله أكابر مجرميهم.!

عن Mohamed Elwardany

شاهد أيضاً

من الدروس الفقهية للساحة.. د. محمد سيد سلطان وحكم الاحتكار