الأربعاء , ديسمبر 4 2024

د.البصيلي يكتب..دروس في الوطنية والإصلاح من حياة سيدي إبراهيم الدسوقي

أعلمُ أن هذه السطور القليلة لا تسعفني إطلاقا لاستقصاء مناقب وكرامات هذا القطب الكبير والإمام الحجة، ورغم أن كتب التاريخ والسيَر قد امتلأت صفحاتها بذكر كراماته، إلا أن الشيخ كغيره من أولياء الله، يستحي من إظهار كراماته فضلا عن نشرها، والاعتزاز بتردادها.. فليس هذا من وصف الرجولة فضلا عن البطولة فضلا عن درجة الكمال والولاية التي بوأه الله إياها.. ومن نصائحة الرائعة في ذلك قوله: “خواص الخواص جعلوا زواياهم قلوبهم، ولبسوا تقواهم، وخوفهم من ربهم ومولاهم، قد رفضوا الكرامات ولم يرضوا بها وخرجوا عنها لعلمهم أنها من ثمرة أعمالهم، فلم يطيروا في الهواء، ولم يمشوا على ماء، ولم يُسَخّر لهم الهواء، ولم تُبصبص لهم الأسود، ولم يضربوا بالأرض فيتفجر الماء، ولا لاَمسوا مجذوماً ولا أبرص فبرئ ولا غير ذلك، فخرجوا من الدنيا وأجورهم موفورة كاملة رضي الله عنهم أجمعين”.
والذي أريد أن ألفت الأنظار إليه، أن الشيخ قد خرّج أجيالا محترفين في التعاطي مع مختلف مكوِّنات كون الله الفسيح، لقد أورثهم سعة الأفق مع حسن الخلق، فاستوعبوا الخلق، وتفهموا مشكلاتهم، وتحملوا المسؤولية تجاه الدين والوطن، لقد أنشأ مدرسته على أساس التعاون والعمل، وليس التهاون والوَهَن، أرشدَنا كيف يكون التكافل والتكامل، والتكاتف والتآلف، وأن ذلك هو أصل التصوف وصُلبُ الإسلام.! وهذا عين الكرامة.
إنه الإمام شيخ الإسلام إبراهيم بن عبدالعزيز (أبي المجد).. الذي ينتهي نسبه إلى الإمام الحسين سبط رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله.. بإجماع علماء الأنساب والمؤرخين كافة.
إنه رابع وآخر أقطاب الولاية الأربعة، وإليه تنسب الطريقة الدسوقية. لُقِّب ب‍‍الدسوقي، نسبة إلى مدينة دسوق بمحافظة كفر الشيخ بمصر، التي ولد بها عام 653 هـ/1255 م، وعاش بها وتوفي فيها، ولم ينتقل عنها إلا مرات معدودة.
وله العديد من الألقاب، أشهرها برهان الدين وأبو العينين. وتأثر كثيرا بأبي الحسن الشاذلي، وكان على صلة قوية بأحمد البدوي بمدينة طنطا الذي كان معاصراً له.
وقد تولى منصب شيخ الإسلام في عهد السلطان الظاهر بيبرس البندقداري، لأنه قد سطع نجمه في العلوم والمعارف وانتشرت طريقته حتى وصل صيته إلى كل أرجاء البلاد، منذ أن ترك الخلوة وتفرغ لتلاميذه، ولما سمع الظاهر بيبرس بعلم الدسوقي وتفقهه وكثرة أتباعه والتفاف الكثيرين حوله، أصدر قراراً بتعيينه شيخاً للإسلام، فقبل المنصب وقام بمهمته، وكان يَهَبُ راتبَه من هذه الوظيفة لفقراء المسلمين، كما قرر السلطان بناء زاوية يلتقي فيها الشيخ بمريديه يعلمهم ويفقههم في أصول دينهم، وهي مكان مسجده الحالي، وظل الدسوقي يشغل منصب شيخ الإسلام حتى توفي السلطان بيبرس، ثم اعتذر عنه ليتفرغ لتلاميذه ومريديه.
وأما عن أمّه، فهي السيدة فاطمة ابنة ولى الله أبي الفتح الواسطي. و كان سيدي أبو الفتح من أجلّ أصحاب سيدي أحمد الرفاعي، كما أنه من شيوخ سيدي أبي الحسن الشاذلي رضى الله عن الجميع. وهو خليفة الطريقة الرفاعية في مصر. وعلى ذلك فإن الشاذلي خال الدسوقي في الطريقة وليس في النسب.. على خلاف ما يفهمه البعض من قول سيدي إبراهيم: ” أنا فككت طلاسم سورة الأنعام التي لم يقدر على فكها الشاذليُّ خالي”. مما يدل على متانة الصلة وقوة التأثر بينهما، كما كانت علاقة القطب الدسوقي بسيدي البدوي “المعاصر له” بهذه المتانة أو أشد قوة..
جدير بالذكر أن القطب الدسوقي يُقام له في مدينة دسوق احتفالان سنوياً، أحدهما في شهر أبريل يُسمى بالمولد الرجبي، والثاني في أكتوبر وهو الاحتفال بمولده الذي يُعد من أكبر الاحتفالات الدينية في مصر، حيث يزور مسجده الكائن بقلب المدينة أكثر من مليون زائر في المتوسط خلال أسبوع من داخل مصر وخارجها.
ومن المعلوم أن مكانة الدسوقي وطريقته كانتا من الأسباب الهامة لتصبح دسوق عضوا في منظمة العواصم والمدن الإسلامية.
يقول المؤرخون وكتاب السيَر: إنه قد حدث صِدام بين الدسوقي والملك الأشرف خليل بن قلاوون بعد توليه حكم مصر، بسبب فرض الحاكم المزيد من الضرائب الغير مبررة على رعايا الدولة، فبعث له الدسوقي رسائل ينصحه فيها ويزجره ويطلب منه الرحمة بالناس وإقامة العدل. فدبروا للدسوقي ووشوا به عند السلطان، وأغروه بقتله حتى لا يُحدِث فتنة في البلاد، فبدأوا بإرسال طرد عبارة عن شهد مسموم كهدية من السلطان للدسوقي، فتسلم الدسوقي الهدية ثم جمع فقراء المدينة، وقال لهم: «هذا شهد إن شاء الله تعالى، كُلوه ولا مبالاة بإذن الله». فأكله الفقراء ولم يؤثر في أحد.. وهي واقعة مشتهرة..
وفي واقعة أخرى أرسل السلطان أحد الأمراء ليقابله، وهو الأمير عز الدين. فركب الأمير إلى دسوق، فلما وصل؛ نصب خيمته على شاطئ النيل، وأرسل أحد أتباعه ليستدعي الشيخ للمثول بين يديه، فأرسل الشيخ من قِبَلِه من يقول له: «اجلس في خيمتك». فلم يقدر الأمير على الحركة وأصبح مشلولاً، وأبطأ خبره علي السلطان، وكثرت الشائعات وأصبحت المسألة مسألة تتعلق بكرامة السلطان وهيبته التي أصبحت في الميزان، فإما أن يقتل الشيخ أو يذله على الأقل، وإما أن يعترف بأنه أقل من أن يخضع أحد رعاياه لسلطانه.
وأرسل السلطان وفداً من قبله ومعهم سَبَّاع يرافقه سبع يلقي إليه مَن يَغضَبُ عليهم السلطان، ولما وصلوا إلى دسوق وعلموا بأمر الأمير، قصدوا خلوة الشيخ، فلما اقتربوا من خلوته خرج لهم الدسوقي، فهاج الأسد وقطع الطوق من رقبته وذهب شطره، فخشي عليه مريدوه، فطمأنهم قائلاً: «إنه لا يفترس إلا الغافل». وحسب ما تقول الروايات: إن الأسد كاد أن يفترس الوفد المرافق له، وجرت أمور بعد ذلك علم منها السلطان أنه وقع في حبائل الوشاة، ورأى السلطان أنه من الأفضل أن يسافر إلى دسوق ليعتذر للدسوقي عما حدث، ثم عرض عليه ما شاء من العقار والمال، فرفض أن يطلب شيئاً لنفسه، وطلب من السلطان أن يترك نصف جزيرة الرحمانية (بمحافظة البحيرة الآن) المواجهة لدسوق للفقراء ينفقون منها على مصالحهم، فوافق. فبشره الشيخ بالنصر على الصليبيين في عكا. تقول الروايات: إنه بعد رجوع السلطان من عكا منتصراً، أصبح يكاتب الدسوقي، ويبدأ رسالاته بعبارة “مملوكك خليل”.
فخدمة الناس، والعمل على راحة المواطن، والحفاظ على حقوق البسطاء، ونشر ثقافة احترام المال العام، والقيام بواجب النصح للعامة والخاصة بأسلوب هين لين… كل هذا مِن سِلْخِ تديننا وتعبدنا لله، ومن صميم تعاليم ديننا الحنيف، بل قد يُتصوَّر وطنٌ بلا دين، لكن لا يتصور أبدا دين بلا وطن.! فأي دعوة تحدث إرجافا وخلخلة تجاه هذه الحقائق إنما هي دعوة هاوية ناتجة عن هوى، وفهم عفِن، وقلب مريض.!
لقد تعلمنا من سيدي إبراهيم الدسوقي أن أي دعوة تُحدِثُ انفصاما بين الفرد والمجتمع، أو انشقاقا بين المواطن والوطن، هي دعوة جاهلية ليست من الدين في شيء.!
وأي إصلاح لا يهتف بالعمل، والتضامن والتعاون، لا يعدو إلا أن يكون شقشقات لفظية فارغة المضمون، ونظريات مجردة، تكون عبئا على الواقع، لتصبح جزءا من المشكلة، لا جزءا من الحل..!
أليس هو الذي قد أوصى تلامذته ومريديه قائلا: “يا أولادي ناشدتكم بالله، لا تسيئوا إلى طريقي، ولا تُلبِّسوا في تحقيق، ولا تدلسوا ولا تدنسوا، وإن كنتم صحبتمونا لتأخذوا مِنّا أوراقاً من غير عمل فلا حاجة لنا بكم”؟!
إنها وصية تكتب بالنور على صفحات من ذهب، فلا غَرْوَ أن خلّدها التاريخ، ولا عجب أن أنجبت أبطالا.!
لقد طبق الرجل تعاليم الإسلام كما أنزلها الله، على النحو الذي أراده الله، ففتح الله له قلوب العباد، وعمّر به البلاد، وذلل له الصعاب، وسخر له من يعينه في مسيرته الإصلاحية، سواء من الحكام أو المحكومين.. فجبر بخاطر الكل، ولم يؤثَر عنه أنه آذى أحدا، أو قصر يوما في حق وطنه وأمته، ولقد ربى أتباعه على ذلك، وحذرهم من مخالفته قائلا: “وإنما آمركم بما أمركم به ربكم، وإن نقضتم العهد فإنما هو عهد الله لا عهدي”.
تلك هي فلسفة الدسوقي في نظرته للتصوف، ومن ثَمّ نظرته للحياة، إن الدسوقي له رأي واضح في التصوف، فالتصوف الحقيقي ليس بالمظاهر ولبس الصوف، ولكنه عبارة عن تدرج روحاني للوصول إلى حقيقة التصوف ذاته، فلا حاجة إلى لبس الصوف الخشن لإنسان قد وصل إلى مقامات اللطافة وخرج عن مقامات الرعونة، وعاد ظاهره الحسي إلى باطنه الإلهي، فيكون بذلك قد وصل إلى حقيقة التصوف بالتدرج والترقية. وكان دائماً ينصح مريديه بضرورة صفاء نفوسهم وتجردها من كل الأوصاف الدنيئة، لكي يتم ترقيتهم إلى المقامات العليا.
وهذه فلسفة عليا وفهم مستنير، وإنها لكبيرة إلا على المجدّين المجاهدين، الذين يستعملون أنفسهم ومواهبهم وإمكانياتهم في رضا الله، يقول الدسوقي عن طريقته: «آه، آه، ما أحلى هذه الطريقة، ما أسناها وما أمرّها، ما أصعب مواردها، ما أعجب واردها، ما أعمق بحرها، ما أكثر حيّاتها وعقاربها، فيا لله يا أولادي لا تتفرقوا، واجتمعوا يحميكم الله من الآفات..».
لقد عاش الرجل ثلاثا وأربعين عاما فقط، قدّم خلالها أروع الأمثلة للمواطن الوفي، والجندي المكافح، والشيخ المربي، والعالم المنافح، والقيادي الناجح.. حتى توفي رضي الله عنه وهو ساجد، عام 696 هـ/1296 م.
رضي الله عن سيدي إبراهيم الدسوقي، وعن سائر أهل الله.

شاهد أيضاً

من لقاءات الساحة .. د. يسري جبر مع باب ركعتي الجمعة من (مسند الإمام الشافعي ترتيب سنجر بن عبد الله)