الأربعاء , فبراير 12 2025

د. أحمد البصيلي يكتب..تبيين العجَب في أسرار شهر رجب

 

إن شهر رجب من الأشهر الحرم التي ذكرها الله عَزَّ وجَلَّ في القرآن الكريم، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، وروى الإمامان البخاري ومسلم، عن أبي بكرة، أن النبي صل الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ؛ ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِى بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ»، وهذه الأشهر الحرم هي أشرف الشهور، بالإضافة إلى شهر رمضان، الذي هو أفضلها مطلقًا..

وشهر رجب كان من الشهور المعظمة عند العرب قبل الإسلام وبعده، فأكثَروا من أسمائه على عادتهم في أنهم إذا هابوا شيئًا أو أحبوه أكثروا من أسمائه، وأن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، أو كماله في أمر من الأمور، موضحا أن من أسماء شهر رجب هي الفرد، والأصبّ، والأصم، لأنه ما كان يسمع فيه قعقعة سلاح لتعطيلهم الحرب فيه.

والدعاء في أول ليلة من شهر رجب بخصوصه مستحبٌّ، وهي ليلة يستجاب فيها الدعاء كما ورد ذلك عن سلفنا الصالح؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “خَمْسُ لَيَالٍ لَا يُرَدُّ فِيهِنَّ الدُّعَاءُ: لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ، وَأَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبَ، وَلَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَيْلَةُ الْعِيدِ، وَلَيْلَةُ النَّحْرِ”. رواه البيهقي في “شعب الإيمان”.

وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه في كتابه “الأم” (1/ 264): [وَبَلَغَنَا أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ: إنَّ الدُّعَاءَ يُسْتَجَابُ فِي خَمْسِ لَيَالٍ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ، وَلَيْلَةِ الْأَضْحَى، وَلَيْلَةِ الْفِطْرِ، وَأَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ] اهـ.

وورد نحوه عن الإمام علي بن أبي طالب، وكثير من الصحابة والآل..

ومن الأدعية التي تلقتها الأمة بالقبول: دعاء الإمام عبد القادر الجيلاني في أول ليلة من رجب، والذي ذكره في كتابه الغُنية:

“إِلهِي : تَعَرَّضَ لَكَ فِي هذه اللَّيْلِة المُتَعَرِّضُونَ ،وَقَصَدَكَ القاصِدُونَ ،وَأَمَّلَ فَضْلَكَ وَمَعْرُوفَكَ الطَّالِبُونَ ؛وَلَكَ فِي هذه اللَّيْلِة نَفَحاتٌ وَجَوائِزُ ،وَعَطايا وَمَواهِبُ ،تَمُنُّ بِها عَلى مَنْ تَشاءُ مِنْ عِبادِكَ وَتَمْنَعُها مِمَّنْ لَمْ تَسْبِقْ لَهُ العِنايَةُ مِنْكَ، وَها أَنا ذا عّبدُكَ الفَقِيرُ إِلَيْكَ، المُؤَمِّلُ فَضْلَكَ وَمَعْرُوفَكَ؛ فَإِنْ كُنْتَ يا مَوْلاي تَفَضَّلْتَ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ عَلى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ ،وَجُدْتَ عَلَيْهِ بِعائِدَةٍ مِنْ عَطْفِكَ ،فَصَلِّ عَلى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَصَحبِهِ، وَجُدْ عَلَيَّ بِطَوْلِكَ وَمَعْرُوفِكَ، يا رَبَّ العالَمينَ”.

ولقد وضع الحافظ أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني رسالة بعنوان: تبيِين العجب بما ورد في فضل رجب، جمع فيها جمهرة الأحاديث الواردة في فضائل شهر رجب وصِيامه والصلاة فيه..

وذكر له ثمانيةَ عَشَرَ اسمًا، من أشهرها ” الأصمّ” لعدم سَماع قَعقعةِ السلاح فيه؛ لأنه من الأشهر الحرم التي حُرِّم فيها القتال، و “الأصبّ” لانصباب الرّحمة فيه، و “منصل الأسِنّة” كما ذكره البخاري عن أبي رجاء العطاردي قال: كنا نعبُد الحجرَ، فإذا وجدنا حجرًا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرًا جمعنا حَثْوةً من تراب ثم جئنا الشّاءَ ـ الشِّياه ـ فحلبْنا عليه ثم طُفنا به، فإذا دَخل شهر رجب قلنا: منصل الأسنّة، فلم نَدع رُمحًا فيه حَديدة، ولا سهمًا فيه حَديدة إلا نزعناه فألقيناه.

وقد عقد ابن حجر في هذه الرسالة فصلًا ذكر فيه أحاديث تتضمّن النَّهيَ عن صوم رجب كاملا، ثم قال: هذا النّهي مُنصرِف إلى من يصومُه مُعَظِّمًا لأمر الجاهليّة، أما إنْ صامه لقصد الصوم في الجملة من غير أن يجعله حتْمًا أو يخُصُّ منه أيّامًا معيّنة يواظِب على صومِها، أو لياليَ معيَّنةً يواظِب على قيامِها، بحيث يَظُنُّ أنها سُنَّة، فهذا من فعله مع السّلامة ممّا استثنى فلا بأسَ به.

هذا ، وحِرْص الناس ـ والنِّساء بوجه خاصِّ ـ على زيارة القبور في أول جمعة من شهر رجب ليس له أصل من الدين، ولا ثوابَ لها أكثر من ثواب الزيارة عموما في غير هذا اليوم.

والأولى في شهر رجب أن نتذكّر الأحداث التاريخيّة التي وقعت فيه مثل غزوة تبوك لنأخذ منها العِبرة، ونتذكر تخليص صلاح الدين الأيوبي للقُدس من أيدي الصليبيين (في رجب 583هـ ـ 1187م) ليتوحَّد العربُ والمسلمون لتطهير المَسجِد الأقصى من رأس الغاصبين.

كما نتذكّر حادِثَ الإسراء والمِعراج ونستفيدَ منه، على ما ارتضاه المسلمون في كونِه حدث في أواخر شهر رجب، على ما هو المشهور ليلة السابع والعشرين منه..

ويُسَمَّى شهر رجب “رجب الفرد”؛ وذلك لأنه مُنفرد عن الشهور الثلاثة الباقية من الأشهر الحُرُم الأربعة؛ لأن ذو القعدة وذو الحجة والمُحَرَّم تأتي تِباعًا وتمر مُتوالية بعضها وراء بعض، ولكن رجب يأتي بعد ذلك بخمسة شهور، هي صفر وربيع الأول وربيع الآخر وجُمادى الأولى وجمادى الآخرة.

ويُسَمَّى شهر رجب “رجب مضر” ، وقد جاء في بعض الأحاديث: “رجب مُضر الذي بين جُمادى وشعبان” وإنما أضيف الشهر إلى مضر؛ لأن قبيلة مضر كانت تُعظِّم هذا الشهر وتصون حُرمته، فكأنها اختُصت بهذا الشهر.

وفي شهر رجب كانت معجزة الإسراء والمعراج، وهي المعجزة الكبرى التي اختص الله بها نبيه محمدًا عليه ـ الصلاة والسلام ـ وقد أشار القرآن إلى الإسراء في قوله ـ تعالى ـ: (سُبْحَانَ الَّذي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء:1) كما أشار إلى المعراج في قوله ـ تعالى ـ سورة النجم (الآيات:7 ـ 18).

(وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى. ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَىمَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى . أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى. وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى . عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى)..

إن شهر رجب هو شهر الفرح والفرج؛ ففيه أسعد ليلة مرّت على قلب الحبيب محمد، وهي ليلة الإسراء والمعجزة، لأن معجزة الإسراء فيها تكريم للرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وتثبيت لقلبه، وفيها إطلاع له على ملكوت السموات والأرض، وفيها تسلية عظيمة للرسول، بعد وفاة عمه أبي طالب وزوجته خديجة في “عام الحزن”، وبعد ذهابه إلى الطائف، واعتداء أهلها عليه.

أضف إلى ذلك أن فضل رجب داخل في عموم فضل الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها: (إنَّ عِدَّةَ الشُّهورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُم ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ، فَلَا تَظْلِموا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُم) (سورة التوبة : 36) وعيَّنها حديثُ الصّحيحَيْن في حِجّة الوداع بأنّها ثلاثة سَرْد (أي متتالية ) ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ،وواحد فرد ،وهو رجب (مُضر)الذي بين جمادى الآخرة وشعبان، وليس رجب (ربيعةَ) وهو رمضان. لأن قبيلة ربيعة كانت تعظم رمضان وتسمّيه “رجب”.!

ومن عدم الظُّلم فيه عَدَمُ القِتال، وذلك لتأمين الطّريق لزائري المَسجد الحرام، كما قال تعالى: بعد هذه الآية (فإذا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُم فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُموهُمْ) (سورة التوبة : 5) ومن عدم الظُّلم أيضًا عدم مَعصية الله، واستَنبَط بعض العلماء من ذلك ـ دون دليل مُباشر من القرآن والسُّنّة نصَّ عليه ـ جوازَ تغليظ الدِّية على القَتل في الأشهر الحُرُم بزيادة الثُّلُث.

ومن مظاهرِ تفضيل الأشهر الحرم ـ بما فيها رجب ـ نُدِب الصّيام فيها. كما جاء في حديث رواه أبو داود من مُجيبة الباهليّة عن أبيها أو عمِّها أن النبيّ ـ ﷺ ـ قال له ـ بعد كلام طويل ـ “صُمْ من الحُرم واتركْ” ثلاثَ مرّات، وأشار بأصابعه الثلاثة، حيث ضمّها وأرسلها والظّاهر أن الإشارة كانت لعدد المرّات لا لعددِ الأيّام. فالعمل الصالح في شهر رجب كالأشهر الحُرم له ثوابُه العظيم، ومنه الصّيام، يستوي في ذلك أوّلُ يوم مع آخره..

أما صلاة الرغائب وهي ثنتا عشرة ركعة – وبعضهم أوصلها إلى عشرين – تصلى بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة في رجب, ويُقرأ في كل ركعة منها بالفاتحة والإخلاص، فقد قال عنها الإمام النووي في المجموع: “هي صلاة بدعة ومنكرة قبيحة، ولا يغتر بذكر من ذكرها, ولا بالحديث المذكور فيها؛ فإن كل ذلك باطل، ولا يغتر ببعض من اشتبه عليه حكمها من الأئمة فصنّف ورقات في استحبابها؛ فإنه غالط في ذلك, وقد صنف في إبطالها الشيخ الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي كتابا نفيسًا فأحسن فيه وأجاد”. اهـ.

وقال الشيخ الرملي الكبير في فتاويه: “لم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به, والأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول جمعة من شهر رجب كذب باطل, وهذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء، وقد ذكرها بعض أعيان العلماء المتأخرين, وإنما لم يذكرها المتقدمون; لأنها أحدثت بعدهم، وأول ما ظهرت بعد الأربعمائة؛ فلذلك لم يعرفها المتقدمون ولم يتكلموا فيها”. اهـ.

والخبر الوارد بشأن هذه الصلاة قال عنه الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: إنه موضوع..

لا ننسى أن رجب هو مفتاح البركة، فمن لا بركة له في رجب لا فتح له في شعبان، ومن كان حاله كذلك فلا منحة له في رمضان، ولتعلم – عزيزي القارئ الكريم – أن رجب هو شهر الغرس وشعبان هو شهر السقيا ورمضان هو شهر الحصاد..

وهذا هو السر في أن الناس اليوم لا يستشعرون فرحة رمضان ولا يستشرفون بركاته ونفحاته، ويخرجون منه كما دخلوا فيه، يعلوهم الكسل والملل ويعتريهم الوخَم والضجَر، لأنهم أضاعوا رجب فتاهوا في شعبان فضاع منهم رمضان.!

ولذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلّغنا رمضان”.

عن Mohamed Elwardany

شاهد أيضاً

من دروس الساحة.. الشيخ أحمد الهجين وشرح قاعدة: هل العبرة بصيغ العقود أو بمعانيها؟