إن ظاهرة التنمر – عزيزي القارئ – ليست ظاهرة جديدة، بل تصدى لها الإسلام في القرآن والسنة، ونظر إليها نظرة حازمة؛ نظرا لما لها من تأثيرات سلبية على الفرد ونفسيته، وما يمكن أن تنعكس على المجتمع ككل، وللأسف فإن هذه الظاهرة تنتشر انتشار النار في الهشيم خصوصا على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث لا رقابة ولا حدود أخلاقية، ولاشك أن هذه الظاهرة ليست محصورة في مكان دون الآخر أو فئات معينة دون أخرى، بل إنها تنطلق من الأسرة كعينة أساسية والمدرسة ثم إلى أماكن العمل وغيرها.
والتنمر – أيها القارئ الكريم – هو سلوك عدواني يجعل الشخص مثل النمر في الطباع الشرسة والاعتداء على الآخرين والكراهية والبغضاء، وهو غالبا ما يفعله الإنسان مع الأقل منه في المكانة أو المال وغير ذلك، وهو موجود في مجتمعاتنا بكثرة لدرجة أننا كثيرًا ما نسمع عن ناس تنتحر بسبب التنمر لمرض يعانون منه أو لونهم أو شكلهم.
وعليه؛ فالتنمر هو السلوك العدوانيُّ المتكرر الذي يهدف إلى الإضرار بفرد آخر أو مجموعة بطريقة عمدية، سواء كان هذا الإضرار بالقول أو بالفعل، نفسيًّا أو جسديًّا، والتصرفات التي يندرج تحتها مفهوم التَّنَمُّر كثيرة ومتنوعة.
والتنمر له صور كثيرة؛ منها: الإساءة بالنظر، ومنها التنابز بالألقاب، ومنها استخدام الألفاظ الجارحة، أو كتابة جمل تسيء إلى مشاعر فردٍ، وقد تكون أيضًا استبعادًا من ممارسة نشاط معين، أو حضور مناسبة اجتماعية، أو إكراه الشخص على فعل شيء يرفضه.
كما قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1]، والهمز بالفعل واللمز بالقول؛ كما قال عز وجل: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11]؛ أي: يحتقر الناس ويهمزهم طاغيًا عليهم، ويمشي بينهم بالنميمة وهي اللمز بالمقال؛ ولهذا قال ها هنا: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11]، كما قال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]؛ أي: لا يقتل بعضكم بعضًا.
فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قالوا يا رسول الله أي الإسلام أفضل؟ قال: “من سلم المسلمون من لسانه ويده”.
والتَّنَمُّر قد يَصِلُ أيضًا للإساءة الجسدية، والشخص المتنمر في الغالب لا يكون منتبهًا إلى ما يفعله، وقد يفعله بالقصد، وهنا الدافع كما حدَّده علماء النفس يكون الغَيرة، أو الشعور بالنقص، أو لأنه قد تعرض لهذا الفعل في يوم من الأيام.
والحق أن الإسلام ينظر إلى الناس نظرةَ مساواة من حيث أصل الخِلْقَةِ، فليس هناك جنس يُفضَّل على جنس آخر في الخلقة، بل إن الناس يتساوون في الكرامة، من حيث إنهم جميعًا بنو آدم؛ ولهذا قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].
ولقد حدث مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كان يصعد على شجرة ليأتي بسواك الأراك، وكانت ساقه دقيقة فضحك الصحابة رضوان الله عليهم، فقال سيدنا النبي للصحابة: مم تضحكون؟ فقالوا من دقة ساق ابن مسعود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنهما أثقل عند الله عز وجل في الميزان من جبل أحد، وذلك لأن العبرة عند الله سبحانه وتعالى ليست بالأجسام ولا بالأموال ولا بالشكل ولكن بالتقوى، فيقول تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”.
والحق أنه مما يغذي شعور المتنمرين بالعدوانية، تصورهم أن القوي هو من يصرع غيره، ويبغي عليه، كما قال شاعر الجاهلية :
وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْـوا ** وَيَشْـرَبُ غَيْرُنَا كَدِراً وَطِيْنَـا
فجاء الإسلام ليغير هذه التصورات الشائهة التي تدل على ثقافة الغاب، فمما قاله النبي ﷺ في ذلك: “ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب”.
وقديما قال الرجل لسيدنا موسى لما أراد أن يبطش به : {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص: 19].
فالتنمر بالآخرين إفساد في الأرض، والمتنمر ليس من المصلحين، وليس هو القوي في مفهوم الإسلام، وكيف يكون قويا، وما هو إلا عبد استجاب لداعية بهيمية محضة، وما استطاع أن يتغلب على غريزته!
فإنه – أيها القارئ الكريم – لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أحمر ولا لأحمر على أبيض ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ”.
كما أن التنابز بالألقاب هو نداء الآخرين بصفة تضايقهم أو الإشارة إليهم بها أمام الناس، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن العبد ليتكلم الكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا يهوي بها في نار جهنم سبعين خريفًا. فالعبرة ليست بالشكل ولا بالجمال، إذ يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنه ليأتي الرجل السمين العظيم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، فيقول تعالى: “فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا”.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة أمَرَ الله مناديًا ينادي: ألَا إني جعلتُ نسبًا، وجعلتُم نسبًا، فجَعلتُ أكرمكم أتقاكم، فأبيتُم إلا أن تقولوا: فلان بن فلان خيرٌ من فلان بن فلان، فاليوم أرفع نسبي، وأضَعُ نسبكم، أين المتقون»؟))؛ [رواه الطبراني والبيهقي) وفي الصحيح عن أبي هريرة : «من بَطَّأ به عمله، لم يسرع به نسبه».
ولتقرأ معي – أيها القارئ الكريم – هذا الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إن الله عز وجل أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية وفخرَها بالآباء، الناس بنو آدم، وآدم من تراب، مؤمن تقيٌّ، وفاجر شقيٌّ، لَينتهيَنَّ أقوامٌ يفتخرون برجال، إنما هم فَحْمٌ من فَحْمِ جهنمَ، أو ليكونن أهون على الله من الجِعْلان، التي تدفع النَّتِن بأنفها».
وأما الذي يحتقرون الناس لأنهم أغنياء، أو لأنهم في مناصب مُغْرِيَّة، أو لأن كلمتهم في الناس مسموعة، أو لأن الناس تخشاهم وتخافهم، فإنني أقول لهم: أنهم يجب أنْ يَفْهَمُوا أن وزنهم في نظر دين الله بحسب عملهم الصالح النافع لهم ولغيرهم، وأنهم بدون عمل صالح يعملونه ابتغاء وجه الله، فإنهم حينئذٍ أهون على الله، وأحقر من الخنافس والصراصير وحشرات المزابل، كما مرَّ في الحديث النبوي السابق..
وعن المعرور، قال: لقيت أبا ذر بالرَّبَذة وعليه حُلَّة، وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك فقال: ((إني سابَبْتُ رجلًا فعيَّرته بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر، أعيَّرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خَوَلُكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فَلْيُطْعِمْه مما يأكل، ولْيُلْبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم”.
ولقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «الكِبْرُ بَطَرُ الحق، وغَمْصُ الناس، ويُروى: وغَمْطُ الناس»، والمراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام فإنه قد يكون المحتقَر أعظم قدرًا عند الله تعالى، وأحب إليه من الساخر منه المحتقِر له؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ» ﴾ [الحجرات: 11]،
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يَبِعْ أحدكم على بَيْعِ أخيه، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذُله، ولا يحقِره، التقوى ها هنا وأشار بيده إلى صدره ثلاث مرات، حسب امرئ مسلم من الشر أن يحقِرَ أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعِرضه”.
ومن أسوأ صور التنمر وأكثرها انتشارا في عصرنا: التَّنَمُّر الإلكتروني: حيث أصبح أداة للتعدي على الغير، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مثل إطلاق شائعات وأكاذيب تتعلق بالشخص المتنمَّر عليه. إضافة إلى السخرية وبثُّ رسائل مؤلمة، ورسائل عنصرية، عبر التعليقات والمنشورات على منصات التواصل الاجتماعي. كما أن تأييد تلك التعليقات يعتبر تنمرًا أيضًا. أضف إلى ذلك التهديد بنشر صورة أو فيديو أو محادثة خاصة. ناهيك عن السخرية من الشكل أو اللون، أو الديانة والثقافة، أو السخرية من ذوي الاحتياجات وأصحاب العاهات والفاقات. فعن البراء قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العَوَاتِقَ في بيوتها، أو قال: في خُدُورِها، فقال: «يا معشر مَن آمَنَ بلسانه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبَّع عورة أخيه تتبَّع الله عورته، ومن تتبَّع الله عورته، يَفْضَحْهُ في جوف بيته».
والواقع أن تنبيه الإسلام وتحذيره من التنمر إنما هو لتحقيق المصلحة والسعادة للفرد والمجتمع، ولاشك أن الدراسات النفسية والاجتماعية الراهنة أكدت أن الأشخاص الذين يتعرضون للتنمر ومن بينهم الأطفال يصابون بأمراض عقلية ونفسية وجسدية واجتماعية، كما يشعرون بحالة من الاكتئاب الحاد والقلق، بالوحدة والحزن، الذي يودي بهم إلى الانتحار.
أما بخصوص آثار التنمر على المجتمع فهي خطيرة، لكونها ظاهرة تزرع حالة من الخوف، نتيجة انتشار السلوكات العدوانية والعنف، كما أننا لاحظنا أن الأسر تشتكي من عجزها وعدم قدرتها على حماية أبنائهم الذين يعانون من حالة الوحدة والانعزال، نتيجة تعرضهم للتنمر، إضافة إلى تراجع مستواهم الدراسي وانعدام الثقة، إضافة إلى التنمر الالكتروني الذي يطال الجميع دون استثناء ويؤدي إلى شعور الفرد بعدم أهميته وغياب تقديره لذاته بسبب الهجومات العدائية المتكررة عليه، أما تعرض العامل للتنمر في مكان العمل فإن ذلك له تداعيات مقلقة؛ لأنها لا تنعكس على العامل فحسب بل على أداء المؤسسة في حد ذاتها، وتشير مختلف الاستطلاعات إلى أن المؤسسات التي ينتشر فيها التنمر تواجه انخفاض الإنتاجية ومشكلات كثيرة.
وصفوة القول أنه لزاما علينا أفرادا ومؤسسات – عزيزي القارئ – العمل على نشر الوعي بالتأكيد على خطورة وحرمة ظاهرة التنمر وضرورة مواجهتها وترسيخ التربية الصحيحة التي تقوم على الاحترام المتبادل والأخلاق الحميدة، كما ينبغي التعرف على الأساليب المستخدمة لمواجهة المتنمرين لإيقافهم عند حدهم، إضافة إلى وضع قوانين تعاقب على هذه الأفعال وتضع حدا لها لنعيش في بيئة صحية أكثر آمانا واستقرارا.
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل..