الحديث عن الحج هو حديث عن ركن من أركان الإسلام التي فرضها الله على عباده المستطيعين، فهو أحد مباني هذا الدين العظيم، وهو مدرسة يتعلم فيها كل حاج, بل كل مسلم، بل كل آدمي.. وذلك بتنقله وتقلبه بين مشاعر الحج..
وإن فوائد الحج وأسراره ليست مقتصرة على الحجاج فحسب بل هي شاملة لكل من ينتسب لهذا الدين، ولكل من يتصل بحقل الإنسانية.. فالجميع في المنفعة سواء.
ومن أسرار الحج ومقاصده: تربية المسلم على التوازن في حياته اليومية.
فالإسلام دين عدل ووسطية حتى مع حقوق المسلم على نفسه, فالإسلام لا يأمر بأمر فيه ضرر أو إجحاف بل كل أوامره ونواهيه تصب في مصلحة من ينتمي إليه فعلى سبيل المثال يقول الله تعالى في معرض الحديث عن مشاعر وشعائر الحج: {..لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ.. } .
فالحج يجمع بين مصالح الفرد الدنيوية من بيع وشراء وغيرها وبين مقاصد هذه العبادة من ذكر وصلاة ودعاء وغير ذلك .
وهذا يدلنا على أن الإسلام ما منع من شيء إلا وأباح أشياء أخرى وهذه هي عين مراعاة حاجيات الإنسان .
والمتأمل في حياة المسلم اليومية تجده بين مباحات لا غنى له عنها وواجبات لابد له من عملها ومحرمات يحرم عليه فعلها وقد منع منها اختباراً وابتلاء على صبره عنها .
ومع ذلك كله تجده يوازن بين المباح من مأكل ومشرب وملبس وبين الواجب من صلاة وبر وصلة وغيرها وبعيداً كل البعد عما منع منه.
وفي أيام الحج تتأصل هذه المبادئ وتترسخ ليعيش المسلم متوازناً في حياته بلا إجحاف ولا تقصير.
ومن مقاصد الحج أيضا: تحقيق مبدأ المساواة .
إن مبدأ المساواة يتجلى واضحاً في الحج حيث يجتمع المسلمون من كل جنس ولغة ولون ووطن في صعيد واحد لباسهم واحد وعملهم واحد ومكانهم واحد ووقتهم واحد وحدة في المشاعر ووحدة في الشعائر , وحدة في الهدف , ووحدة في العمل , ووحدة في القول.
وفي خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق قال (إن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى.
وعلى هذا يتربى الأغنياء والمترفون أنه مهما كثرت الأموال ومهما ارتفعت المناصب فليس المال وليس المنصب وليس الجاه هو المقياس الحقيقي للتفاضل والتفاخر بل تقوى الله وإخلاص العبادة له وحده هي مقياس التفاضل , فما فاق بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي أبا جهل وأبا لهب بالنسب ولا بالمنصب بل بحقيقة التفاضل وهو إيمانهم بالله وحده وتقواهم له، ولهذا نالوا شرف صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ومرافقته.
وهي دعوة للتواضع وهضم النفس لتعرف حقيقة هذه الدنيا وأنها فانية وزائلة.
ومن مقاصد الحج: أن يتعلق القلب بالله وحده دون غيره.
الحج يُؤصل معنى مهم في قلب كل حاج فمنذ شروع الحاج في بداية الحج بلبس ملابس الإحرام وهو يؤكد في نفسه صلته بالله وحده ومرجعه إليه، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فله يصرف جميع العبادات وإليه يتقرب بجميع الطاعات والقربات
وإذا تأملنا باقي المناسك من طواف وسعي ووقوف بعرفة ورمي الجمار وغيرها لوجدناها تؤكد ذلك المعنى وتؤكد حقيقة قول الله تعالى {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
ولترسيخ عقيدة التوحيد كان شعار الحج (لبيك اللهم لبيك) شعار التوحيد , يقول جابر بن عبدالله رضي الله عنه في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم (فأهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) , فهي تربية للنفس على توحيد الله والإخلاص له ونبذ كل من سواه من المعبودات الباطلة .
ومن مقاصد الحج: تأصيل مبدأ ( إنما المؤمنون إخوة ).
فحينما يقصد الحجاج من كل بلاد الدنيا مكاناً واحداً في وقت واحد على هيئة واحدة ويؤدون منسكاً واحداً يتحقق في النفوس أخوة الدين التي جمعتنا ينادي كل أخ أخاه ويحاكيه متذكراً تلك الأخوة التي عاشها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتي كانت من أول الأعمال التي قام بها حين قدم المدينة مهاجراً فآخى بين المهاجرين والأنصار فتحقق بذلك أخوة الدين .
ولنتأمل قول الله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} تلك الرابطة التي ارتضاها الله عزوجل لأهل الإيمان وهي أقوى من أخوة النسب فما أجمل تلك الأخوة وما أسماها لأنها قامت على أساس لا يعتمد على غرض أو عرَض.
ولنتذكر وصية الرسول صلى الله عليه وسلم ( لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا) فيعطف المسلم على أخيه المسلم وينصر قضيته ويهمه ما أهمه وهذا سر عجيب من أسرار الحج .
ومن أسرار الحج: التعارف .
في الحج يتحقق ذلك المعنى الرفيع كما أخبر الله بذلك فقال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} وإن اختلفت اللغات والأوطان والمشارب فالتعارف من أكبر أسباب الألفة بين أهل الإسلام.
وحينما نقرأ هذا الحديث يقودنا لشعور صادق وحس عجيب, فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:( الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف) ,فما أجمل هذه الأرواح وهي تتعارف لتتآلف وتتوحد حباً ودفاعاً ونشراً لهذا الدين.
والخير للمؤمن أن يكون ممن يألفه الناس ويأنسوا به فعن سهل بن سعد الساعدي قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(المؤمن مألفة ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف).
ومن مقاصد الحج وأسراره: التعود على الانضباط .
فالحج في شهر ذي الحجة وصيام رمضان في شهر رمضان ومواقيت الصلاة في وقت محدد معروف وغيرها من العبادات فتلك هي منظومة تربي المسلم على أن يكون منضبطاً في حياته ويزداد ذلك حينما يكون في أيام فاضلة كأيام الحج يتنقل فيها الحاج من عبادة إلى عبادة ليعود المسلم نفسه على أن يكون منضبطاً فلا يقدم شهر الحج عن شهره ولا يوم عرفة عن يومها ولا الرمي عن وقته ولا الطواف عن موعده.
فمواقيت العبادة في الحج منضبطة فلا يمكن أن يؤخر بعضها ولا يقدمها ولو لثواني .
وهي دعوة لأن يتميز المسلم عن غيره بانضباطه في مواعيده وأعماله فيعتاد الانضباط في حياته كلها ومع الآخرين .
إن مما تحتاجه البشرية في تنظيم حياتها أن يعتادوا على النظام في حياتهم والذي له الدور البارز في حل كثير من أزماتهم , فما نراه من تلك الأنانية والفوضوية في مجتمعاتنا لهي أكبر دليل على بعدنا عن المنهج الرباني الذي يضمن السعادة للبشرية وهذا ما يراه الحاج جليا ويتربى عليه في مناسك الحج.
فحينما يكثر عدد الحجيج في مكان واحد يتجلى لنا ذلك المقصد بكل أبعاده وتظهر لنا حقيقة وحكمة أن يتربى أهل الإسلام خصوصاً على اعتياد النظام في حياتهم .
فالطواف حول الكعبة مع شدة الزحام,وتقبيل الحجر الأسود وكثرة من يقصد تقبيله لا يستطيع أن يتقدم أحد على من كان قبله وكذا رمي الجمرات واصطفاف الحجاج أفواجاً بسير واحد وجهة واحدة ومرمى واحد بترتيب ونظام, كل ذلك من أكبر الوسائل على تربية المسلم ليكون في نفسه حب النظام والبعد عن تلك الأنانية وتلك الفوضوية, فما أروعه من مقصد.
ومن أسرار الحج : تعويد النفس على الخشونة وصعوبة العيش.
جاء في الأثر: “اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم”.
فالحاج يحرم نفسه كثير من الترف الذي كان قد اعتاد عليه قبل إحرامه ويحرم نفسه من مباحات كان يتمتع بها قبل أن يهل بحجه ,مثل الطيب وحلق الشعر والصيد وغيرها من محظورات الإحرام ليعود المسلم نفسه على الصبر على شظف العيش وشدته.
كما أن كثرة العدد في مكان مزدحم ضيق والتنقل بين المشاعر مع البعد والمشقة كل ذلك لتعويد النفس على تحمل الصعوبات.
ولأجل أن يتذكر المسلم أولئك الذين يعيشون في شظف وضيق وشدة من العيش وفي حاجة ماسة للطعام والشراب والكساء,مما يجعله يغرس في نفسه حقيقة دعانا الرسول صلى الله عليه وسلم إليها بقوله 🙁 لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) فيعيش للآخرين لا لنفسه فحسب .
فالحج تربية على القناعة في اللباس حيث يلبس خرقة من قطعتين فتكفيه, والقناعة في السكن حيث يسكن في مكان بقدر نومه فيغنيه ,والقناعة في الطعام حيث يأكل من الطعام وربما نفسه لا تشتهيه, فما أعظمها من مقاصد .
ومن مقاصد الحج: “المداومة على الإكثار من ذكر الله”.
إن من سعة رحمة الله وفضله أن جعل الحج كله مواطن ذكر فالإحرام فيه ذكر وعرفة ذكر ومزدلفة ذكر ومنى ذكر والرمي ذكر والطواف ذكر والسعي ذكر، والذكر مادة الحج قال تعالى {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ}
وكما قال تعالى {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} .
كل ذلك ليتحقق في النفوس أن طمأنينة القلوب وراحتها بذكره عزوجل كما قال تعالى {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} ,فما أعظمها من نعمة حين يعتاد هذا اللسان على دوام ذكر الله عزوجل في كل حال من الأحوال كما قال تعالى{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ } .
فما قصد الحجيج مكة من جميع بقاع الأرض إلا حباً لربهم وأُنساً بعبادته وتلذذاً بالتعب في سبيل طاعته,فحريٌ بهم أن يأنسوا بذكره على جميع أحوالهم.
ومن أسرار الحج: التيقن من زيف الدنيا وأنها حتما إلى زوال، فلا يُغَرّ بطيبها عاقل.
فلباس الإحرام يذكر المسلم بحقيقة غابت عن تفكيرنا وكرهتها نفوسنا وكم نهرب منها ولا بد لها أن تدركنا وأن نشرب من كأسها, إنها مفارقة هذه الحياة والانتقال إلى حياة البرزخ ثم الحياة الآخرة ,كما أخبرنا الله عنها بقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ.
فالحاج حينما يلبس الإحرام فإنه يشابه تلك الأكفان التي يكفن بها الميت ليلحد في قبره ,كما أن ذلك الجمع الغفير من الحجاج في مكان واحد وكل واحد منهم يلهج لسانه بدعاء الله أن يتقبله ويعتقه من ناره, يذكره بموقف المحشر الذي يجمع فيه جميع الخلق وكل فرد قد شغل بنفسه عن غيره كما وصفهم الله بقوله {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } , فحريٌ بالمسلم أن يكون دائم القرب من الله بعيداً عن معصيته ومخالفة أمره مستعداً لهذه الحقيقة في أي وقت حلت به وأدركته بعمل صالح يفرح به ويُسر يوم أن يلقى الله ,ولذا كانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم :(أكثروا ذكر هادم اللذات ـ الموت(.
أسأل الله أن يمنحنا رضاه عنا، وأن يحسن ختامنا، وألا يحرمنا خير ما عنده لسوء ما عندنا.