الجمعة , مارس 29 2024

د. أحمد البصيلي يكتب..العطايا والهدايا في الصلاة والسلام على خير البرايا

 

لقد جمع الله أسرار وأنوار العبادات وأودعها في عبادة الذكر؛ فالذكر حياة الروح، وروح الحياة، إلى حد أن قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت”،  فبذكر الله تُستجلَب النعم، وتُستدفَع النقم، فهو نعمة كبرى ومنحة عظمى، من حُرمَه فقد حُرِم، ومن ذاق عرف، ومن عرف اغترف، ومن حُرِم انحرف، وجرِّب تجِدْ. ” وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ”.

وجعل الله عبادة الذكر بمثابة “التحلّي” بعد كبرى العبادات في الإسلام؛ فمثلا بعد أداء فريضة الحج يرشدنا الله تعالى بقوله: ” فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ”، وبعد الفراغ من أداء جميع مناسك الحج: “فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا..”، وبعد الانتهاء من أداء صلاة الجمعة: ” فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ”، وفي معرض الحديث عن أداء الصلاة في ظروف القتال: ” فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ..”. فلا جرم أن قال الله تعالى: ” إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ”.

وينصحنا القرأن الكريم إذا كنا بصدد حرب أن نكثر من ذكر الله؛ لما له من الأثر الفائق في الثبات، ورفْع معنويات الجند والقادة، واستجلاب مدد الله سبحانه “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ”.

وإذا كانت عبداة الذكر كذلك؛ فإن درة تاج عبادة الذكر هي الصلاة والسلام على خير الأنام، صلى الله عليه وآله وصحبه الكرام..

هذا.. وقد اختص الله عبادة الصلاة والسلام على النبي بمجموعة عطايا وأسرار.. منها:

(1)أنها العبادة الوحيدة التي قبل أن يأمرنا الله بها أخبرنا أنه يمتثلها، وأضافها لذاته العلية تشريفا للحضرة المحمدية، حتى جاء الأمر بها في صورة التشريف لا التكليف؛ حيث أمرنا الله بها بصيغة عجيبة فريدة لم تتكرر في القرآن كله إلا في هذا الموضع.. عندما أمرنا الله بالصلاة والسلام على حبيبه ومصطفاه.. فأمرنا ربنا أمرا بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكة قُدسِه، وثلَّثَ بالمخلوقين من جنه وإنسه.. فقال: “إن الله وملائكته يصلون على النبي”، ثم اصطفى سبحانه شريحة معينة من خلقة وأهّلهم لأن يكونوا أهلا لهذا التشريف فقال: “يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما”.

ولعَمري.! إنها لمنقبة غالية لا يحصلها إلا الصادقون في محبة سيدنا محمد.

(2)ومنها أيضا: أنها العبادة الوحيدة التي تجمع أهل الأرض بأهل السماء، وتستغرق عالم الملك وعالم الملكوت، والعالم السفلي والعلوي، والغيب والشهادة، والحاضر والماضي والمستقبل، والملائكة والإنس والجن.. بدليل أن الله عبّر عن ذلك بالفعل المضارع: “يصلُّون” الذي يفيد التجدد والاستمرارية.. ثم شفع ذلك بعدة مؤكدات فبدأت الآية بأداة التوكيد “إن”، إضافة إلى اسمية الجملة، إضافة إلى التوكيد في ختام الآية “وسلموا تسليما”..

كأن الله يريد أن يقول لك: إن الكون كله من حولك من عرشه إلى فرشه يترنم بالصلاة والسلام على حبيبي محمد، فلا تكن نشازا.! وغرِّد مع الأكوان والعوالم من حولك بالصلاة والسلام على مَن جعله الله رحمة للعالمين.

(3)ومنها أنه لا يوفَّقُ للصلاة على سيدنا رسول الله منافق أبدا أو شقي، لأن دلالة كمال وحقيقة الإيمان أن يكون رسول الله أحب إليك من نفسك وأهلك ومالك.. ومن أمارات هذه المحبة أن المحب يفنى في المحبوب فلا يذكر غيرَه.. ومن أحب شيئا أكثر من ذكره.. وقد رتّبَ الله ثوابا عظيما وفريدا على هذه العبادة، ألا وهو: أن الله يصلي على كل من صلى على سيدنا محمد، هذا هو الثواب الأصلي على هذه العبادة.. أما الحسنات فهي تبع لهذا الثواب وليست هي الثواب بعينه.. وصلاة واحدة من الله على العبد تكفيه في النجاة والنجاح والفلاح في الدنيا والآخرة.. فما بالنا بأن الله يصلى عشرا على من صلى مرة واحدة على سيدنا محمد.. ومن صلى عليه عشرا صلى الله بها عليه مائة، ومن صلى عليه مائة صلى الله عليه ألفا، ومن صلى عليه ألفا حرم الله جسده على النار.. إذا علمت هذا فنقول: أنك إذا أدمنت الصلاة على الحبيب فأنت من السعداء حقا ورب الكعبة.! لأن الله يصلى عليك، والله لا يصلي على شقي أو محروم أو مطرود من رحمته.! والمنافقون حتى على عهد سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام كانوا يتظاهرون بالصوم والجهاد والحج ويتزاحمون على الصف الأول في الصلاة.. إلا أن عبادة الصلاة والسلام على سيدنا محمد لا يؤهل لها إلا المؤمنون الصادقون، ولذا اختصهم الله وتوجَّهَ إليهم بالخطاب في قوله: “يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما”.

(4)ومنها أنها عبادة قطعية القبول، بمعنى أن المتعبد بها يمكنه الجزم بقبولها بنسبة تفوق المليون بالمائة، كرامةً لموضوعها رسول الله صلوات الله عليه وآله.. ولذلك ندبنا الشرع الشريف أن نصلى على رسول الله وآله في مختتم الدعاء ومفتتحه، ومنه قول سيدنا عمر رضي الله عنه: “بلغني أن الدعاء معلق بين السماء والأرض لا يُرفَع حتى تصلوا على نبيكم”، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم للرجل الذي دعا دون أن يثني على الله ويصلي على رسوله: “عَجِلَ هذا”.! لأن الله يقبل الصلاة على حبيبه في كل الأحوال.. وحاشا لكرم الله أن يتقبل مفتتح الدعاء ومختتمه ويرد ما بينهما.!

فلا غرو أن أمرنا الشرع بالصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله في كل المواطن، وفي الصلوات كلها، خاصة صلاة الجنازة.. لأن الميت إن لم تؤهله أعماله لرحمة الله فلقد استحق رحمة الله ببركة الصلاة والسلام على الحبيب وآله.. وإذا كان بذكر الصالحين تتنزل الرحمات؛ فما بالنا بذكر سيد الكائنات عليه أفضل الصلوات والتسليمات؟!

أدِمِ الصلاة على الحبيب محمد *** فقبولها حتما بدون ترددِ

أعمالُنا بين القبول ورفضها *** إلا الصلاةَ على الحبيب محمدِ

أنا ما مدحت محمدا بقصائدي *** ولكن مدحتُ قصائدي بمحمدِ

(5) ومنها: أن ثوابها لن يدخل في سداد الديون يوم القيامة، وصاحبها لا يكون من المفلسين أبدا، لأن قانون الإفلاس يوم القيامة قائم على عملة الحسنات والسيئات.. أما الصلاة على النبي فما الحسنات بالنسبة لها إلا شيئا إضافيا زائدا على الثواب الأصلي الذي يكافئ الله به كلَّ من صلى على الحبيب النبي وآله، وهذا الثواب الأصيل هو أن الله يصلي عليك، والصلاة من الله بمعنى أنه سبحانه يحوطك بالرحمة والتحنان، ويمدك بالضمان والأمان، ويلهمك التوفيق للجنان، ويرزقك الروح والريحان، والقرب من الرحمن، فهو سبحانه يصلي عليك في كل آن، ما دمت تصلي على النبي العدنان، وحاشا لأحد يصلي ربنا عليه أن يضام أو يهان.!

(6)ومنها: أن رسول الله يذكرك دائما وهو في برزخه الشريف، فكلما سلمت عليه سلم عليك، وكلما صليت عليه صلى عليك، وكلما ذكرته ذكرك، وكلما مدحته مدحك.! ألا ترى رسول الله قد أحسن إلى من أساء إليه.. فكيف بمن صلى وسلم عليه؟!

ولذا سأل سيدُنا أبيُّ بنُ كعب رسولَ الله عليه الصلاة والسلام قائلا: “يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي فَقَالَ مَا شِئْتَ قَالَ قُلْتُ الرُّبُعَ قَالَ مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ قُلْتُ النِّصْفَ قَالَ مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ قَالَ قُلْتُ فَالثُّلُثَيْنِ قَالَ مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ قُلْتُ أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا قَالَ إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُك”.

نعم.. فكل إنسان يحبك إنما يحبك لينال خيرك، إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنه يحبك لتنال أنت خيره. يقول أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه: “دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأسارير وجهه تبرق، فقلت: يا رسول الله، ما رأيتك أطيب نفساً ولا أظهر بشراً من يومك هذا، قال: ومالي لا تطيب نفسي، ويظهر بشري؟ وإنما فارقني جبريل عليه السلام الساعة، فقال: يا محمد، من صلى عليك من أمتك صلاة كتب الله له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفعه بها عشر درجات، وقال له الملك مثل ما قال لك، قلت: يا جبريل، وما ذاك الملك؟ قال: إن الله عز وجل وكل ملكاً من لدن خلقك إلى أن يبعثك، لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا قال: وأنت صلى الله عليك”. ويقول عليه الصلاة والسلام: “ما من أحد يسلم علي إلا رد الله إلي روحي حتى أرد عليه السلام”، “من صلى علي صلاة لم تزل الملائكة تصلي عليه ما صلى علي: فليقل عبد من ذلك أو ليكثر”. ولاشك أن المُقلَّ قد بخل على نفسه بفضل الله. يقول أبو ذر رضي الله عنه : ” خرجت ذات يوم، فأتيت رسول الله عليه الصلاة والسلام  قال: ألا أخبركم بأبخل الناس؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: من ذكرت عنده فلم يصلّ علي، فذلك أبخل الناس”. والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم تستوجب شفاعته يوم القيامة. يقول الحبيب عليه الصلاة والسلام: “أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً”.

إذا أنت أكثرت الصلاة على الذي         صلى عليه الله في الآيـــات

وجعلتـــــــهـا وِرداً عليــــك محتمــــــــــــــــــاً         لاحت عليك بشائر الخيرات

فاللهم صل على من جعل من العبيد سادة، ومن المستضعفين قادة، ومن رعاة الغنم زعماء للأمم، ومن عباد الأوثان والحجر قادة للبشر. بلّغ سلامنا ربنا إلى من كشف الدجى بجماله، وفاق العلا بكماله، وعظُمت جميع خصاله، فصلوا عليه وآله.

عن Mohamed Elwardany

شاهد أيضاً

د. أحمد البصيلي يكتب..الحركة في الذكر

  الحركة في الذكر أمر مستحسن ، لأنها تنشط الجسم لعبادة الذكر وهي جائزة شرعاً …